عشيّة جائزة نوبل للفيزياء في حياتي كمحرر علمي

جائزة نوبل, جائزة نوبل 2019

العنوان واضح تمامًا، فهو يتحدث عن الليلة التي تسبق جائزة نوبل، ويبدو واضحًا أنني سأتحدث عن الكثير من الأشياء، ما عدا الجائزة نفسها، على الأقل في مقدمة الموضوع.

لنبدأ.. إذا سألت محررًا علميًا، أو صحفي مبتدئ شغوف يكتب في العلوم، أو حتى شخص عادي مهتم بالعلوم؛ عن شهر أكتوبر وماذا يمثل له؟ سيجيب ببساطة بأنه شهر جائزة نوبل، وربما سيكمل إجابته بأنه شهر التوعية بسرطان الثدي.

بالنسبة إليّ تحتل جائزة نوبل أكبر حدث علمي يمكن أن يرصده الناس، كونه حدثًا سنويًا. أتذكر حدثين مهمين ضجّ بهما العالم في وقتٍ ما، ثم خفُت نَجمهما بعد ذلك، وأصبح الحديث عنهما كالحديث عن الديناميكا الحرارية أو قوانين نيوتن مثلًا. الحدث الأول كان اكتشاف موجات الجاذبية، والحدث الآخر هو أول صورة لثقب أسود.

أرأيت.. حتى وأنت تقرأ أسماء هذين الحدثين، ربما لم يثيرا فضولك وحماستك مثل وقت وقوع الحدث، أو لم تشعر بحالة الترقب مثل تلك التي تشعر بها دائمًا -كمحب للعلوم- عند اقتراب موعد جوائز نوبل. وهنا يكمن السر.. جائزة نوبل زائرة عزيزة خفيفة، يتكرر وجودها، ويتكرر معها حالة الارتباك والترقب، وربما شعور ليلة الامتحان في حياتي. هذا المنشور يشرح لك ببساطة:

يجب الإشارة إلى أن اكتشاف موجات الجاذبية حاز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2017، لثلاثة علماء هم «كيب ثورن، راينر فايس، وباري باريش».

ربما تسأل، هل الأمر مهم لهذه الدرجة، أو هل هو مقلق لهذه الدرجة؟ مجرد إعلان عن اسم الفائز ونوع الجائزة وانتهى الموضوع. صحيح أن جائزة الفيزياء هي الأكثر سحرًا وأناقة، لكن الكواليس مهمة يا عزيزي.. الكواليس تُطبخ فيها كل الوجبات اللذيذة، وتتم فيها كل اللمسات قبل أن تطل النجمة على الساحة بكامل أناقتها. في الكواليس حياة أخرى يتم فيها تقرير الكثير من الأحداث والمصائر.. وجائزة نوبل في الفيزياء لها كواليسها ووضعها الخاص.

بدأ الأمر منذ حقبة من الزمن من عمري تتجاوز العشرين عامًا تقريبًا، منذ سنوات دراستي.. تحديدًا في الصف الثاني الابتدائي. منحتني قريتنا الصغيرة التي نشأتُ فيها في صحراء السعودية فرصة عظيمة لأتأمل السماء ليلًا بلونها الحالك والمليئة بالنجوم، وأبدأ أتساءل عما يجري هناك في الأعلى. أتذكر ليلة إما في بداية الشهر أو نهايته لأن القمر لم يكن موجودًا. استلقيت على ظهري وأتأمل السماء لوقتٍ متأخر من الليل أمام باب المنزل، حتى شعرتُ أنها تدنو منّي.

في صباح اليوم التالي سألت معلمتي الفاضلة «خديجة»: لماذا لا يسقط القمر والنجوم على الأرض؟ هل هما ملتصقان في السماء؟ كنت أظن أن السماء سقفًا مثل سقف المنزل، وتلتصق فيه النجوم والقمر مثل مصباح كهربائي معلق. نظرت إليّ معلمتي التي وجدت فيّ بذرة شغف بالعلوم، ثم أجابتني بأن الوضع ليس كذلك، بل الجاذبية هي من تبقيهم في الأعلى.

كنت في سنٍ صغيرة لأستوعب معنى الجاذبية، فاصطحبتني إلى معمل المدرسة المتواضع جدًا، وأتت إليّ بكرتين مختلفتين في الحجم يصل بينهما خيط، ثم قالت ببساطة: لنتخيل أن الكرة الكبيرة هي الأرض، والصغيرة هي القمر والخيط هي قوة الجاذبية. هي مجرد قوة تفعل نفس ما يفعل الخيط.. تربط بين الأجسام في الكون وتبقيهم في مكان محدد بعيدًا عن بعضهم.

ظليت في هذه المدرسة برفقة هذه المعلمة إلى أن وصلت إلى الصف السادس الابتدائي، ولا أدري كم عدد الأسئلة التي كنت أسألها عن النجوم والكواكب والجاذبية، وافتراضات عن مخلوقات أو وحوش تعيش في السماء.

كانت هناك معلومة شائعة بين طلاب القرية يعرفونها من ذويهم، وهي أن الأرض هي مركز الكون والشمس هي التي تدور حولها، بالطبع هذه المعلومة انتشرت كتفسير للآية «والشمس تجري لمستقر لها»، لكن معلمتي الفاضلة هي أول من منعتنا عن تصديق هذه التفسيرات، وهي أول من شرحت لنا قصة مركزية الكون، وحدثتنا عن الفلاسفة الذين جادلوا فيها، وحدثتنا عن غاليليو (بطلي الأسطوري في صغري) الذي حكم عليه بالإعدام لأنه درس ويقول الحقيقة بناءً على العلوم. عرفت ذلك في الصف الخامس الابتدائي.

بمرور الوقت التقيت بمعلمات فيزياء في سنوات الدراسة التالية، هنّ من جعلوني أعشق هذا النوع من العلوم، خاصة أن له علاقة بتفسيرات الكون والنجوم والأرض وإلخ. وعلى الجانب الآخر، كنت لا أفهمها علميًا بسهولة، لأن لها علاقة بالرياضيات التي كنت أكرهها للغاية. لكن مع الوقت وجدت من يعلمني كيف أفهمها وأحبها بشكلٍ صحيح.. بشكل فيزيائي.. ونما حبها في قلبي وعقلي كشجرة خضراء في صحراء قاحلة. ثم قررت أن أدرسها كجزء ضمن تخصصي في العلوم. ومع كثرة الاطلاع والقراءة، ودخول الانترنت في حياتي، أصبح شغفي للفيزياء خاصًا. ليس كأي شيء، خاصة إذا كان لها علاقة بالفضاء.

هكذا إذن، الأمر ليس مجرد شيئًا عشوائيًا، بل هو تاريخ من الحب المتبادل ربما. وعلى الرغم من هذا الحب، فالفيزياء ليست سهلة، وتعلمها ليس سهلًا على الإطلاق، وليلة امتحانها كانت كوابيس بالنسبة لي، لأنها كانت تتسبب لي في نوبات توتر وانزعاج من أقل الأشياء، وامتناع عن الأكل ليوم كامل قبل الامتحان. المياه والعصائر كانت المنقذة دائمًا في هذه الليالي.

كواليس ليلة نوبل في الفيزياء تكون مشابهة لذلك على نطاق ضيق، وليس لديّ تفسير لها فعلًا.. ربما سجّل عقلي الباطن أن ليلة ترقّب حدث ما مرتبط بالفيزياء؛ هو بمثابة امتحان. لذا يقوم بتحفيز هذا الشعور من التوتر والقلق.

في عشية ليلة نوبل في الفيزياء، أقوم بإلغاء كافة المواعيد التي في جدولي لليوم التالي، ولا يوجد عشاء في هذه الليلة بالطبع. أستيقظ قبل الإعلان بساعة، أحستي «مجًا» من القهوة سكر زيادة، وأجلس أمام جهاز اللاب توب خاصتي أخذ جولة في المواقع الإخبارية والعلمية الإنجليزية.. ماذا كتب هؤلاء وماذا سيكتبون؟ بمجرد أن يبدأ البث الحي من صفحة نوبل على فيسبوك أو عبر يوتيوب، أنقطع عن العالم تقريبًا. وعندما تعلن النتيجة، يزول التوتر، ويبدأ اليوم يأخذ منحاه الطبيعي، لكن بالكثير من المذاكرة.

في العام الماضي كانت جائزة نوبل في الفيزياء في مجال البصريات، فيزياء الليزر تحديدًا. أحب فيزياء البصريات والضوء بفضل أستاذي في الجامعة «عبد الكريم أبو الوفا» رحمه الله، لكن على الرغم من معرفتي الجيدة بهذا المجال، لكن كانت الليلة عصيبة. هذه تقريبًا كانت ليلة امتحان بالفعل. مصادر لا تعد ولا تحصى بدأت أجمعها وأقرؤها، وأحاول فقط فهم قصة وآلية الملاقط البصرية منذ بداياتها.. نحو 7 ساعات تقريبًا متواصلة من «المذاكرة المكثفة» ليخرج هذا التقرير ببساطة:

نوبل في الفيزياء 2018: فيزياء الليزر تنتصر

وبمجرد تسليم المقال انهَرت حرفيًا وشعرت بإعياء وتوقف تقريبًا عن التركيز. ففي خلال هذه الساعات لم أتناول أي طعام لأنه لا يوجد قبول لذلك. مجرد قهوة سكر زيادة تبقيني في تركيزي. مرّ اليوم على خير حمدًا لله، وها أنا كتبت تقرير هذا العام بكل حب وتقدير، وتأثر غير مفهوم، وعلى سيمفونية الكون الأبدية؛ موسيقى فيلم «interstellar» لـ«هانز زِيمر».

على مدار الأعوام السابقة من جائزة نوبل في الفيزياء، ربما تكون جائزة هذا العام هي الأكثر سحرًا وأناقة وعمقًا، فهي لم تكرّم 3 علماء فحسب، بل كرّمت علماء الفيزياء الفلكية وعلم الكونيات كافة منذ عشرينيات القرن الماضي، كرّمت أولئك الذين نعرفهم ولم نعرفهم في هذا المجال، خاصة أن أغلب أبحاثهم تقوم على حسابات نظرية، استطاعت تقديم فهمًا أوضح لكوننا.

من مقالي: «كيف نفهم الكون؟» الإجابة تربح نوبل في الفيزياء 2019

في جائزة هذا العام لم يسر جدولي على ما يرام، لأنني استيقظت في الثامنة صباحًا، ثم عدت للنوم مرة أخرى، واستيقظت بعد إعلان الجائزة بربع ساعة. العجيب، الغريب والمذهل، هو أنني رأيت حلمًا خلال هذه الساعات قبل الإعلان، بأن الجائزة لأشخاص متعددين في مجالٍ ما في علم الكونيات. ولم أصدق أنها كذلك عندما استيقظت.. وهكذا تمنحنا الفيزياء حبّها بطريقتها الخاصة.

رأي واحد حول “عشيّة جائزة نوبل للفيزياء في حياتي كمحرر علمي

  1. التنبيهات: متفرقات - فرزت

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.