أكتب هذه التدوينة في بداية عام 2020 التي أملت أن تكون سنة سعيدة مليئة بالحب والأمل .. أكتب هذه التدوينة وكأنه لم يمر نحو عقدين من الزمن على تلك العادة التي كنت أمارسها منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمري -وربما أقل-، وهي تدوين أسماء الصحفيين والإعلاميين الذي يرحلون شهداء المهنة في ظروف الحرب المختلفة، في فلسطين والعراق.
وبما أنني عشت تلك الفترة من عمري خلال الانتفاضة الفلسطينية ثم حرب العراق، كنت -وما زلت- أؤمن بأن الصحفي هو رسول، عليه إيصال رسالةٍ ما إلى العالم، ولأن رسائل الصحفيين دائمًا ما تكون مفجعة، حزينة، تحمل معها الكثير من الحكايات. لذا فإن استهدافه هو نوع من اغتيال الروح وإسكات الصوت، وإغلاق الأفواه، وذلك أمر مرفوض بالطبع، ولهذا فإن خسارة صحفي يعني خسارة أصوات بحاجة لأن تُسمع. الاختلاف هنا هو أنني أكتب عن صحفية ومذيعة تلفزيون مخضرمة، توفيت في فراشها الدافئ يوم الثاني من يناير/ كانون الثاني 2020 في منزلها في دبي، وهي التي كانت قد واجهت الموت في عدة مواقف، خاصة في العراق حين تم تفجير مكتب قناة العربية هناك، وأصيبت بجروح طفيفة نتيجة لذلك.
كنت أشاهد على الدوام قناة الجزيرة قبل انطلاق قناة العربية، وعند انطلاق تلك الأخيرة أصبح لديّ قناتين إخباريتين أشاهد من خلالهما العالم، وكانت نجوى قاسم هي من خطفت شاشة قناة العربية بالنسبة إليّ. أصبحت هي «الصخرة» التي تتمركز خلف الشاشة، يمكنك استشعار ذلك خاصة في تغطيات الأحداث الميدانية والتفجيرات، والأخبار العاجلة، حتى لقّبت بالمراسلة/ المذيعة الحربية.
نبرة صوتها المليئة بالرصانة والجدّية على الشاشة، وملامحها الثابتة، وشعرها الأشقر المنسدل على كتفيها، ووعينين خضراوتين، وأناقة مظهرها.. هكذا عرفتُ الأستاذة نجوى، ومنذ وقت طويل للغاية في طفولتي وفترة المراهقة، وكانت أستاذتي الافتراضية التي تعلمت منها كيف يكون الصحفي، وكيف يمارس شخص ما مهنة الصحافة والإعلام.
تعلمتُ منها طريقة الإلقاء والأسلوب الصحفي، وما معنى المهنية، وصياغة كلمات وجُمل الأخبار، وطريقة تناول الخبر بحد ذاته، وكيف يمكننا أن نجد أسئلة مناسبة لنتحدث في موضوع خبريّ ما. خلال حرب العراق عام 2003، كنت أتوق وانتظر سماع تغطية الأحداث بصوتها وبحضورها، لأنها امتلكت قدرة مذهلة على نقل الأحداث بما تحمل من خوف وألم وفجع، وصدق حقيقي استطاع جذب انتباه صبيّة ما تزال ترتعب من مادة الرياضيات، وتعد جدول الأسبوع الإذاعي في المدرسة.
منذ نحو شهر كنتُ أعدّ مادة خاصة عن المذيعات اللواتي غطّين الحروب في العالم العربي منذ العام 2000، وكانت نجوى على رأس القائمة. شاهدت نحو 10 فيديوهات -وربما أكثر- طويلة وقصيرة، قديمة وحديثة، عبر يوتيوب تتحدث فيها نجوى قاسم عن حياتها ومسيرتها منذ أن كانت في تلفزيون المستقبل، ثم انتقالها إلى قناة العربية. استمعت لتجربتها، وكيف نزلت الميدان في أماكن متفرقة من العالم لتنقل ما يجري هناك، وكيف بثّت نشرات وتقارير صحفية جازفت فيها كثيرا حتى تضع المشاهد في قلب الحدث -حرفيًا. عرفتها بأنها إنسانة صاحبة مبادئ ومواقف واضحة، خاصة من الثورات العربية. وإن كان هناك وصف يمكنني وصفها به، فهي «تحب ومخلصى للشعوب بصدق»، ولهذا رثاها العالم العربي كله تقريبًا بعد علمه بوفاتها.
لن أنسى لها موقف خاص لها عندما اعترضت على أن يناديها أحد الضيوف «إسرائيلي» بلقب «سيدتي العزيزة» في إحدى اللقاءات. ومواقف أخرى تأثرت فيها على الهواء مباشرة بحكايات النازحين واللاجئين والناجين من الحروب في عالمنا العربي.
في إحدى اللقاءات التي تحدثت فيها عن مسيرتها وتفجير مكتب قناة العربية في العراق قالت: «أول مرة بتُوعَى على إنه إيه .. فيه شخص هلّق كنت بتتحدث معه، وبعد لحظة مات». وبنفس الطريقة صدمني خبر وفاتها.. فجأة تلك المتألقة على الشاشة أنهت نشرتها/برنامجها، ثم عادت إلى المنزل، وجلست برفقة أفراد من عائلتها، وخلدت إلى النوم ولم تستيقظ لليوم التالي! صدمني خبر وفاتها في سنٍ صغيرة -52 عامًا- حتى أنني لم أستوعبه في البداية، لم أستوعبه للحد الذي جعلني لا أستطيع البكاء عليها! صرت أُخبر كل من في المنزل أن نجوى قاسم مذيعة العربية ماتت، رغم أن الجميع عرف الخبر من خلال السوشال ميديا. لكن عادة، الفقدان المفاجئ لشخص ما، يجعلنا لا نستطيع تصديق خبر رحيله بسهولة.
هنا أودّع أستاذة لي رغم أننا لم نلتقي أبدًا، ولم أحاول التواصل معها من قبل عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لكن مؤخرًا، أجّلت تواصلي معها حتى أكمل إعداد مادة المذيعات التي ذكرتها سابقًا، وحتى أرتب الأسئلة التي كنت سأوجهها لها، وحتى وحتى وحتى … لكن الفراق لا ينتظر ولا يؤجل مواعيده.
كتبَت نجوى قاسم أمنيتها الأخيرة لعام 2020 عبر تويتر، دعت فيها كثيرًا للجميع، وللبنان .. ثم رحلت هي في سلام. رحمك الله يا أستاذتي العزيزة، ستبقين بكل تأكيد، ستبقين في كل القضايا التي بحاجة لأن تُسمع وكل الحكايات التي بحاجة لأن تُروى .. ستبقين متل زهر البَيْلسان.