لا تغيب مدونتي عن بالي كل يوم .. أشعر بسعادة كبيرة عندما يصلني بريد إلكتروني ينبهني بأن هناك متابع جديد للمدونة.. ضيف جديد مرحّب به في عالمي..
أنا أعتبر هذا المكان هو المكان الخاص، الفسيح الذي أتحدث من خلاله إلى العالم الافتراضي.. أتحدث أحاديث عادية بسيطة، ربما يُسمع فيها صوتي وربما لا، لكن الحكي والتحدث شيء جيد. كل يوم أفكر في كتابة ولو عدة أسطر هنا أريد دائمًا أن أتخلص منها وأطلق سراحها للعالم، لكن هل يمكننا قول كل ما يخطر ببالنا؟ أن نتحدث عن كل ما يحدث معنا؟ أن نعبّر عن غضبنا على أمور محددة نعرفها؟ بالتأكيد لا.. أو لا أدري.
على كل حال، تفاجأت أنني لم أنشر تدوينة واحدة منذ يوم 23 مايو/ آيار! وهذا وقت طويل للغاية .. طويل على شخص مهنته التي يعرفها هي الكتابة، ومتعته في الحياة هي القراءة. ما حدث في شهر يونيو كان كثيرًا للغاية، لدرجة أنني شعرت أنه أطول شهر مرّ عليّ منذ بدء الحجر المنزلي.
مربع صغير مريح
في نهاية شهر يونيو؛ كان سينتهي عقد شقتي الصغيرة التي سكنت فيها لمدة عام في الجيزة. مربع صغير في دور أرضي شهد على أيام فرحي وحزني، وصدماتي في فقدان أحبائي.
لو تحدث جدرانه فإنها ستحكي عن الليالي التي نمت فيها بعد نوبات حزن شديدة، وتفكير زائد في معنى الحياة والمستقبل.. ستشهد الجدران على قسوتي على نفسي في أنني أحملها أكثر مما تطيق من التفكير في تبعات المجهول وفقدان عائلتي..
ستشهد على أيام فرحت فيها أيضًا. أيام كنت فيها سعيدة للغاية.. أيام معرض الكتاب، وزيارات وسط القاهرة، والدقي ومكتب العمل.. أيام مشيت فيها وحدي في ميدان التحرير ليلًا، والمشي بلا هدف في شوارع أكتوبر وميدان الحصري بعد المغرب إلى الساعة 9 مساء قبل أيام كورونا.. ستشهد أيضًا على أيام كورونا العصيبة، القاتمة، الثقيلة على النفس، والمليئة بالخوف والقلق ليس على نفسي فحسب، بل على عائلتي وكل من يهمني أمرهم.. وأيضًا، خوفي على الناس بشكل عام، والحديث معهم وإليهم عن اتباع إجراءات الوقاية.
سنة كاملة نزلت فيها ضيفة على القاهرة والجيزة. سنة أدركت من خلالها أنني أستطيع النجاة في أي مكان في العالم. أدركت فيها أنني أصبحت لا أخشى الأماكن الجديدة، وأستطيع حفظ معالم أي شارع جديد من أول جولة فيه.
كنت سأسافر إلى بلد آخر خارج مصر قبل انتقالي للقاهرة، لكنني شعرت أن القفزة من قريتنا الصغيرة في محافظة الدقهلية إلى هذا البلد ستكون مرتفعة للغاية، وربما سأقع على رأسي فيها، خاصة أنني كنت سأترك كل عملي في مصر وأذهب إلى بلد لا يتحدث العربية، وأبدأ من تحت الصفر.
لذا أخذت الأمور تدريجيًا. أولًا، بالتواجد بالقرب من عملي.. بالقرب من القاهرة التي أكرهها نهارًا صيفًا وشتاءً، وأحبها ليلًا صيفًا وشتاءً أيضًا. على الرغم من أنني لا أعمل باستمرار في المكتب، لكن هناك ضرورات تجعلني قريبة منه. وثانيًا، كنت قد وضعت خطة مسبقة منذ سنوات طويلة مضت بأنني سأترك قريتنا وأمضي في حياتي في أي مكان آخر “يبث حياة”.. مكان يستطيع فيه المرء أن يتنقل بسهولة بعيدًا عن تعقيدات المواصلات وطول الطريق ومشقة السفر، مكان يمكنه البحث عن فرص جديدة في كل شيء. لذا كان التواجد في القاهرة أو بالقرب منها من أهم المحطات. وفي القاهرة أيضًا أماكن لطالما حلمت أن أذهب إليها بعيدًا عن إبداء أي أسباب.
القرار الأصعب
كانت شقتي الصغيرة في أكتوبر هي أول محطة لي خارج الدقهلية لمدة عام، عام كان فيه يوم 30 يونيو هو المحطة الأخيرة في هذه الشقة. ربما سأحكي تفاصيل هذا المربع الصغير فيما بعد، لكن بمرور الوقت لابد للإنسان أن يأخذ قفزته القادمة.
كان القرار التالي هو ألا أعود خطوة إلى الخلف مهما كان الأمر. بل يجب أن أتقدم خطوة أخرى للأمام. كان عليّ أن أجد مسكنًا أوسع من المربع الصغير الذي سكنته.
شقة متوسطة المساحة تحتوي «بلكونة» في مكان جيد تحتويني وعائلتي عندما يأتون لزيارتي. نعم، أنا أعيش في شقة وحدي في عقار سكني. وهذا الاحتمال الذي لم أفكر فيه يومًا ما.. ولو كانت نفسي حدّثتني من المستقبل وقالت لي أنني سأفعل هذا ذات يوم فما كنت سأصدقها، لأنني ببساطة عشت مع عائلتي طوال فترة حياتي، ما عدا فترات قصيرة انفصلنا فيها عن بعضنا عدة مرّات. كما أنني لم اعتد الحياة الاجتماعية والاختلاط بالناس. فكانت فكرة البحث عن شقة جديدة، وإمضاء عقود إيجار، وشراء الأثاث والأجهزة المنزلية الأخرى، كانت فكرة غريبة عني تمامًا.
المفاجأة التي أقولها لنفسي أنني أنجزت ذلك، وربما حتى الآن لا أصدق أنني نفذت هذه الخطوة. استقريت في مكان خاص بي، شقة مساحتها تتخطى المئة متر، أنا أول ساكن فيها، شقة فندقية إن صح التعبير. اشتريت فيها الأثاث على ذوقي، وأتحمل كافة المسؤولية عن نفسي، وأهتم فيها بعائلتي إذا أتوا لزيارتي. كل شيء كان يسير على ما يرام إلى أن تعرضت إلى حادثة فيها في أول يوم ذهبت فيه لتنظيفها والاستعداد للتحول إليها.
أول تجبيسة
كان ذلك يوم سبت، يوم 6 يونيو/ حزيران، تاريخ مميز لا ينسى (6/6) .. استيقظت يوم الجمعة 5 يونيو مبكرًا في شقتي الصغيرة، وذهبت إلى الشقة الجديدة بعد استلام عقد إيجارها ومفاتيحها، ومعي معدات التنظيف.
أثناء التنظيف، تعرضت لحادثة منزلية .. حادثة سقوط قوية أتت على ذراعي الأيمن، على الكوع تحديدًا. تسببت هذه السقطة في حدوث شرخ كبير نسبيًا في عظمة الزند في ذراعي الأيمن (عرفت ذلك لاحقًا من الطبيب)، وجرحت قدمي اليسرى بقطعة زجاج لم أنتبه لها. حمدت الله أنني لم أسقط على رأسي أو ظهري لأنني كنت وحدي هناك، وحمدت الله أن تلك السقطة لم تتسبب في كسر في الحوض أو خلع في الكتف.
تركت كل شيء على حاله وارتديت مبلاسي التي جئت بها، وذهبت إلى أول صيدلية على الشارع. حكيت للشخص الواقف هناك -ليس طبيبًا- عمّا حدث. سألته عن أي طوارئ يمكن أن أذهب إليها، فذكر لي أن الطوارئ في المستشفيات مغلقة لا تستقبل حالات سوى كورونا. أعطاني مسكنًا موضعيًا يتم دهنه من الخارج، ونصحني بالبحث عن أقرب طبيب عظام. كنا قرب موعد الحظر، ولم أجد أي طبيب متاح.
ذهبت إلى شقتي الصغيرة مرة أخرى، ومضيت ليلة قاتمة أتألم فيها ألم لا يطاق. كان شقيقي -باعتباره طبيب علاج طبيعي- يتابع معي عبر واتس آب بعض الأوضاع التي تريح ذراعي وتمنع الألم. اعتذرت عن العمل لأنني كنت أعاني من ألم شديد وشعور بالعجز وعدم التركيز مطلقًا، وانتظرت لليوم التالي للسادسة مساءً. اخترت هذا الطبيب لأنه كان قريبًا مني أستطيع الذهاب إليه مشيًا على الأقدام، وليس ركوب تاكسي يمكن أن يزيد الأمر سوءًا مع تحريك الذراع.
كنا يوم الجمعة 6/6، ذهبت إلى الطبيب، وبعد إجراء الأشعة، تم تشخيص ما حدث بما ذكرته سابقًا. ثم تجبّس ذراعي كله بالقرب من الكتف وحتى بداية الأصابع. كانت هذه أول تجبيسة في حياتي.
ذهبت إلى شقتي الصغيرة مرة أخرى بعدما انتهى الألم وبدأت علاج وبعض المسكنات -التي استمرت لمدة أسبوعين-. أخذت الإجراءات التالية في إخبار مدرائي في العمل بأنني لن أستطيع العمل بهذا الوضع، حتى هنا على مدونتي لم أستطع كتابة أي شيء حتى عبر تطبيق ووردبريس على الهاتف باليد اليسرى. شهر كامل مُنع ذراعي الأيمن من العمل، وبدأت معاناة أخرى في إنجاز المهام اليومية، وإعداد الغداء، والاهتمام بنظافة المطبخ والشقة، والقيام بكل شيء بيد واحدة.
يوم ميلادي
صادف هذا الشهر التعيس يوم ميلادي، يوم الـ 19 .. لا أدري لماذا فعلت ذلك؛ لكنني اشتريت عبر الإنترنت فستانًا جديدًا خاصًا لهذا اليوم قبل يوم ميلادي بعدة أيام، وذهبت إلى السوبر ماركت القريب مني واشتريت قطعة واحدة من كعكة صغيرة دائرية، ولم أعثر على شمعة في محل قريب مني. لكنني استبدلت الشمعة بوردة بلاستيكية صغيرة وضعتها فوقها. تمنيت أمنية، وأزلت الوردة وأكلت الكعكة.
وهكذا كان يومًا غير عادي.. لأن العادي يوم عيد الميلاد هو أن أحتفل به وسط عائلتي وأصدقائي ومن أحبهم ويحبونني، وأن أكون على ما يرام، لكن يوم ميلادي في 2020 كان غير عادي.. أتي في وقت كورونا حيث الأساس هو التباعد الاجتماعي، فلا وجود لحفلات منزلية صغيرة ولا تجمعات، وأتى وأنا لا أستطيع ارتداء الفستان الذي اشتريته للمناسبة، وأتى وأنا لست على ما يرام صحيًا ونفسيًا.
ساعدتني المعايدات والأمنيات السعيدة التي وصلتني عبر الإنترنت من بعض الأصدقاء والأشخاص الذين يعرفونني؛ على الشعور بأنني أحظى بعيد ميلاد جيد. وأن هناك من يضعني في قائمة اهتماماته، وأن هناك من يأخذ من وقته ليرسل لي معايدة حتى لو كانت صيغتها مكررة أو محفوظة.. المهم أنها وصلت باسمي.
وحمدًا لله شُفيت الآن وأزلت الجبيرة (الجبس) يوم السبت 4 يوليو/ تموز، لكن ما زلت أخضع لعلاج طبيعي على يدي. استطعت الكتابة بيديّ، وعدت إلى العمل أيضًا لكن يديّ ما زالت تعمل ببطء وحذر لأن أي حركة مفاجئة أو سريعة فيها تؤذيها، وأواجه صعوبة في استخدام فوتوشوب. استقريت في شقتي الجديدة برفقة شقيقتي. وأظن أن الأمور على ما يرام حتى الآن.
سأكتفي بهذا القدر من الكلام. أردت فقط أن أسجّل ما حدث معي خلال شهر غبت فيه عن العالم.. وغبت فيه عن العالم حتى عن فيسبوك. وما زلت غائبة عن فيسبوك حتى إشعار آخر.. لفيسبوك حكاية أخرى سأحكيها في تدوينة قادمة.
شكرًا لوقتكم..
الحمد لله على سلامتك ، كل التوفيق لك أختي مي ❤ ، أعرفك من الفيسبوك ، وقررت أن أطلع على مدونتك لأني لاحظت غيابك .
إعجابإعجاب
الله يسلمك أخي الكريم :)) شكرًا جزيلًا لك
إعجابإعجاب