*نُشرت هذه القصة لأول مرة في يناير 2022 عبر صفحتي الشخصية في فيسبوك.
تأبَى حياة المَرء أن تزول بعد كل فَقْد، بل تتجدد وتصرّ على أن تمنحني فرصة أخرى، وأن تُخرج لي بطاقة جديدة تُريني من خلالها ما لديها من سعادة. حكايتي هذه المرة قصيرة نوعًا ما، على أمل أن يكون لها فصل جديد.
لقاؤنا هذه المرّة لم يكن صدفة، بل كان بعد ألف ميعاد وميعاد. فنمط حياتنا الحديثة تُجبرنا أن نحدد جداول دورية لكيفية انقضاء يومنا، كل شيء بوقت محدد. الانتهاء من العمل في الموعد المحدد دون الانتظار ربع ساعة إضافية لإنهاء ما لديّ .. أن أعود إلى منزلي في الثالثة عصرا دون تأخير، أن أحصل على وجبة الغداء في موعدها.. هذا وغير ذلك من جدول ومهام يومية يجب أن يبقى في وقته المحدد وإلا ضاع كل شيء وينتهي اليوم في انتظار اليوم التالي. وبالتأكيد ضاعت الكثير من الأيام وألغينا موعدنا عدة مرات لأن لا شيء يسير بشكل مثالي دائماً.
لقاؤنا كان محدداً في مثل هذه الأيام، في شهر يناير، وفي جو شتوي اعتيادي حتى بدأت درجة الحرارة تقترب من الصفر مئوية. كانت الأرصاد تحذر من الخروج ليلا وتنصح بالبقاء في المنزل، لكننا بدأنا كل شيء بلمسة من الجنون، أو بمعنى أصح، أصرّ القدر على أن يمنح يوم لقاءنا هذا الجنون.
كان منزله يبعد عن منزلي نحو 95 كيلومتراً، في محافظة أخرى مسافة ساعتَيّ سفر تقريباً، لذا استغرق تحديد الموعد النهائي للقاءنا نحو شهر كامل.
يوجد بالقرب من منزلي مول تجاري شهير اتفقنا أن نلتقي هناك. أنهيت استعداداتي في المنزل وانتظرت اقترابه من المكان. أرسل لي عبر تطبيق «واتساب» رابط مباشر لتحركاته، وبقيت أتابع حركته من خلاله. مع وصوله أخيراً إلى المكان، كانت بضعة دقائق من الانتظار في ستاربكس كافيه لنلتقي أخيراً.
تعرفون تلك الابتسامة البلهاء، العفوية، الكبيرة التي تعتري وجوهنا في اللقاء الأول. ابتسامة معبّرة عن كل ما يكنّه القلب للآخر. لم نتصافح، فقط جلسنا ونظرنا عدة ثوان لبعضنا البعض.
شعرتُ لوهلة أن اللقاء بحد ذاته غريباً في عالم أصبح من السهل الحديث مع أي شخص في أي مكان؛ فللقاء الجسدي/ الواقعي لهفته ولذّته وغرابته تلك. عند اللقاء تلتقي العيون ويظهر بريقها الاستثنائي واضحًا، نستطيع تمييز رائحة عطور بعضنا، يرى كل منا شخص الآخر، لا نكون لبعضنا صورة أو صوت أو إنسان يتحرك عبر شاشة.
عند اللقاء يتلاشى القلق تدريجياً، يظهر حقيقة وجود إنسان آخر معك يمكنك الشعور به والحديث معه دون أن تقلق حول رؤيته لرسالتك أم لا، هل سيرد عليها أم سيتجاهلها، يتضح كل شيء حتى وإن كان في موعد اقتراب الليل.
كنت أحدّثه دائماً عن النجوم وأمنيتي في أن يكون لقاءنا الأول في رحلة للصحراء ومشاهدة النجوم هناك، سيكون ذلك أكثر رومانسية بالتأكيد من جهة، ومن جهة أخرى سأكون أكثر سعادة كَون النجوم تمنحني ذلك. تذكر أمنيتي تلك في أثناء جلوسنا في ستاربكس وفي ليلة شديدة البرودة، وفي تلوث المدينة الضوئي، فكسر صمتنا ضاحكاً وأخبرني متعجباً أن لقاءنا تم أخيراً، لكن في مبنى من الطوب والخرسانة، تحيط بنا الأدوات التي ابتكرها الإنسان ليظهر تمّدنه أو حداثته في زاوية ما من العالم.
لم نتحدث عن شيء محدد، فقط نظرنا لبعضنا طيلة الوقت مع ابتسامات متراشقة بيننا، تحدثنا عن الطقس، تذكرنا مشاهد من بعض أفلام هوليوود المفضلة لدينا.. يشبهني كثيراً.. ظل كل شيء هادئ -حديثنا، صمتنا، ابتسامتنا-، خاصة مع قطرات المطر التي بدأت تتساقط ونراقبها من خلال النوافذ المغلقة. بدأت الشوارع المحيطة تخلو من العدد القليل من الناس الذين اندفعوا لداخل المول للاحتماء من المطر.
كان الجو مناسباً لنأخذ جولة معاً في المول. شاهدت فيه الكثير من المحال التجارية وبعض صالات الألعاب للكبار والصغار، فقررنا أن يتخلل لقاءنا التالي لحظة جنون في صالة الألعاب.. لكن لقاءَنا التالي ما زال مجهول التاريخ.