منطقة وسط البلد في القاهرة – مصر — تصويري، 6 إبريل/ نيسان 2019
بالأمس كان يوم الاثنين، 23 مارس/ آذار 2020، اعتدنا أن تجمعنا أجواء يوم الاثنين معًا، أن نكون في وسط القاهرة، في منطقة وسط البلد على الأرجح نتجول فيها، وتقصّ عليّ حكايات الشوارع والمباني.
زرتُ منطقة وسط البلد مرات كثيرة، لكن لم أفكر ولو للحظة أن أتوقف دقيقة بجوار مبنى أو فندق أو شارع لأعرف حكايته، على الرغم من أنني أعشق حكايات الأشياء وتاريخها وتفاصيلها التي تبقيها حيّة.
لا أعرف لماذا أكتب لك هذه الرسالة الآن، لكن بالتأكيد ليست رسالة وداع، ربما رسالة لنبقى فيها معًا. الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. الوقت هنا بطيء، كل شيء هادئ لدرجة أنه يمكنك سماع صوت السكون. الوقت الآن يسمح للإنسان بأن يعيد شريط حياته ويومه وحاضره، وإحضار مخطط مستقبله المجهول. دعني أخبرك من البداية..
جئتُ إلى مدينة أكتوبر بالقرب من القاهرة -لأسباب تعرفها- منذ فترة ستكمل سنة بعد بضعة أشهر. قبل هذه الفترة كنت دائمًا أتعامل مع الحياة بغضب شديد وانتظار نهاية ما. غضب على كل المصائر التي تلقي بي هنا وهنا. خضت معارك كثيرة وحدي، وكنت سعيدة في بعضها لأنني لست معتادة على الذهاب وحدي في أي مكان. سافرت إلى القاهرة وحدي مرات عديدة حتى نسيت عددها. اضطررت في بعض الأحيان أن أبيت فيها، في فندق «لوتس» المتواضع قديم الطراز في وسط البلد. ذهبت في مشاوير كثيرة غير آبهة بشيء سوى أن يتم اليوم، وغد يأتي يوم آخر.. حتى تعرفت عليك.
هل تتذكر العبارة التي كتبتها لك كإهداء؟ ربما اخترتها هي تحديدًا لأنها ليست مقتبسة من كتاب ما، ولأنها تصفني تمامًا. لستُ معتادة على كتابة أو حتى تأليف مثل تلك العبارات، لكن ما يشعر به المرء تعبر عنه الكلمات دائمًا.
أهدتني الحياة إياك في وقتٍ عصيب.. كان لقاءنا الأول يوم إثنين في شهر فبراير/ شباط 2020، واتفقنا أنه سيكون يوم شبه ثابت لتلك المهمة. أجّلنا لقاءات أسبوعية عدة مرّات لأسباب تتعلق بعملي وعملك .. التقينا عدة مرات مجددًا مبتهجين ونسينا أننا لم نلتقِ في مواعيدنا الأسبوعية السابقة.
لقاءنا الأول كان في السادسة مساءً في باحة فندق «نايل ريتز كارلتون» بالقرب من ميدان التحرير، الميدان الذي لم أتعرف عليه بسبب المسلة الجديدة حديثة الوجود في الميدان .. تجولنا كثيرًا في منطقة وسط البلد .. بجوار الفندق الألماني الذي نعرفه ولا نعرف نُطق اسمه بشكل صحيح.. رأيتُ كلاب وسط البلد الصديقة (الصديق الذي عبر خلفي ونحن ننتظر دورنا في «حمادة مكرونة» دون أن تخبرني أن هناك كلبًا خلفي حتى لا تُفزعني)، الكلب الأسود الذي رأيناه يقف منتصبًا بشموخ في نهاية الشارع الهادئ .. وجبة المكرونة المميزة التي تشاركناها معًا، الهدايا التي تبادلناها، كافيه البُسطاء (القهوة) وحيواناته الأليفة (أصحاب المكان). تجربة القهوة كانت أروع تجربة أضيفت في حياتي لأسباب مثل؛ أنني لم أجلس يومًا على هذا «الكافيه» المتواضع. ولأن الحديث هناك يكون عفويًا ينطلق في البَراح الكوني فوقنا بين المباني المرتفعة.. الطريق الذي قطعته من أجل أن توصلني للجهة الأخرى من الشارع لأنني أخاف «تعدية الشارع».
ثم في يوم آخر كنا في الدقي .. سرِنا مشيًا على الأقدام 3 ساعات نتجول في الشوارع في يوم قاتم مليء بالتراب، مشابه لجو نهاية العالم في فيلم «interstellar» .. هل تتذكر معرض الكتاب وحمدي الوزير؟ القهوة والهدايا التي تبادلناها، دهشتي برؤية «عيّنات» ساندوتشات الشاورما الصغيرة الدائرية والتومية من «سمسمة».. أول مرة أخبرتك فيها كيف تفرّق بين النجمة والكوكب في السماء عندما شاهدنا كوكب الزهرة. هل ما زلت تتذكر الفرق؟
ثم في يوم آخر كان موعدنا مع ساحة دار الأوبرا.. تجربة أتوبيس النقل العام الذي أخذني في رحلة «مراجيح» من أكتوبر للزمالك في ساعة وربع. أعرف أنني آتي على موعدنا متأخرة، لكننا في القاهرة، ولا توجد مواعيد مضبوطة في هذه المدينة. كان ذلك اليوم هو أفضل أيامي على الإطلاق .. نسيم الهواء البارد في الكافيه المفتوح، وقطط الكافيه الصغيرة التي تحوم في المكان. اليوم الذي عرّفتك فيه الفرق بين الكوكبة والكويكب.. هل ما زلت تذكر الفرق؟ وعندما حل الليل عرّفتك على كوكبة الجبّار التي طلّت بهيئتها الساحرة في زاوية مظلمة من سماء القاهرة، وكوكب الزهرة فوق قبة الدار المضيئة باللون الأصفر، هل ما زلت تعرف شكل الكوكبة وعدد نجومها؟ حكاياتك عن تصميم البيوت القديمة، الصور السيريالية التي التقطتها بكاميرا هاتفك من معرض قصر الفنون، وضحكنا كثيرًا ونحن نحاول فهم معانيها .. بائع الكتب الذي اشتريت من عنده عدد شهر مارس من ناشونال جيوجرافيك.. الجاكت الفيروزي الذي كان يرتديه أحد الأشخاص على كوبري قصر النيل، أول مرة أقترب فيها من أسود الكوبري، حكاياتهم وحكايات آثار المدينة التي تقصّها وكأنك مرشد سياحي ومؤرخ بارع.
وسط القاهرة مرة أخرى عند بائع الكتب في شارع طلعت حرب من أجل كتاب أبحث عنه – وحتى الآن لم أجده. ثم كان نهاية مشوارنا عند عتبة باب محطة مترو السادات.. نهاية أتت فجأة لأسباب تتعلق بك.. حاولنا مجددًا أن نلتقي لكن الأمور لم تسر على ما يرام. زاد الأمر سوءًا ما حل بنا والعالم مؤخرًا بعد اجتياح وباء كورونا.
أصبحت نهاية مشوارنا عند باب المترو فجوة كبيرة بعد أن تركتَ القاهرة. أصبحتَ بعيدًا عنّي الآن، وهناك فجوة وثقبًا أسودًا يحوم حولنا لأن الأمور تسير على نحوٍ غير جيد فيما يتعلق بوباء كورونا. أغلب التقديرات تشير إلى أن الأمور ستأخذ عدّة أشهر، وحتى لا يتفاقم الأمر فالحل هو البقاء في المنزل.
عدّة أشهر سنبقى في منازلنا محبوسين، وكأننا في سجنٍ كبير نتوق لضوء الشمس ونسيم الصباح.. نتوق للمشي في الشوارع دون خوف من أمراض أو إصابات من جراثيم قاتلة .. ربما غضِبت منّا الحياة فصفعتنا صفعة كبيرة حتى نشعر بقيمتها .. بقيمة كل تفاصيلها، حتى تفاصيلها المرهقة.. المشاوير الطويلة ودرجات سلم المترو، شجارات الجيران، وقصص الحب التي تبدأ وتكمل وأخرى تبدأ وتنتهي .. وهكذا. تفاصيل الحياة التي نسيناها وسط سعينا الدؤوب للا شيء.. نعم للا شيء، ها نحن الآن جلسنا في منازلنا 9 أيام.. قلّت سرعتنا في السّعي، فهل أصابنا مكروه؟ لا شيء.. قلّ معدل الجميع في العمل والمواعيد والاجتماعات والخطط، لكن ربما سيدركون الآن حقيقة أخرى وهي أن حياتهم كان بإمكانها أن تكون أفضل لو تمهلوا قليلًا .. وبإمكانها أن تكون أفضل مستقبلًا لو تمهّلوا .. ربما أرادت لنا الحياة أن نعود إليها لنتأملها دون تعب وإرهاق من كثرة الركض.
أنا هنا في شقتي في أكتوبر، خشيت أن أذهب لعائلتي لأسباب تتعلق بالمنطقة الجغرافية التي نعيش فيها كأسرة هناك، حيث الريف ومشاكله التي لا تناسب ظروف العمل عند بعد، وخوفًا عليهم من احتمال إصابتي بالفيروس والتسبب في نقله إليهم! وها أنا أتأمل سقف الغرفة وأستمع لموسيقى «On the Nature of Daylight» لفيلم «Arrival»، وبجواري كتاب -ستحبه بالتأكيد- سأهديك إيّاه في موعدنا القادم، على الرغم من أنني لا أنتظر ذلك الموعد، فلا أعلم متى سيكون، أو هل سيكون حقًا أم لا؟
فقط الأيام تسير تحملنا معها نحو ثقب أسود. لا أريد أن أبدو متشائمة، لكنني حزينة .. حزينة لأن العالم يصدّر لنا صفعات كبيرة على نطاق واسع .. حزينة لأن قلبي تمزّق خلال الأيام الماضية بسبب ما حل بأرواح الناس بسبب الوباء .. ليس فقط الموت، بل انعدام قيمة الحياة لدى بعض الناس .. حزينة لأن ذكرياتنا الجميلة التي كتبتها في الأعلى، حاولت تذكرها بصعوبة وأنا اكتبها الآن .. حزينة لأن .. لأن لا شيء يبدو جيدًا اليوم، والتفكير في أن الوباء سيطول فكرة تقتلني ببطء.. لن أحكِ لك عن هواجسي فيما يتعلق بهذا الأمر الآن. سأحتفظ بها لوقت انتهاء الوباء، وعندما تعود الحياة لطبيعيتها سأحكيها، ووقتئذٍ سنسخر منها. حتى ذلك الحين، كُن بخير يا صديقي، ودَع لقاءنا التالي يكون في وسط البلد.. وسأخبرك حينها ماذا يعني «ثقب أسود»..
وسط البلد وما ادراك ماوسط البلد🤤لم اكن من عشاق^مصر^ الا عندما زرت ذاك المكان المزحم المليء بالأنواع والشخصيات المختلفه حيث الضحك والمرح والحزن، هذا المكان برأيي مزيج من الحب
إعجابLiked by 1 person
واحد من أحب الأماكن لقلبي في القاهرة ❤️❤️ .. كل الأجواء فيه مميزة، وهو مكان أصل محاط بمعالم تاريخية عريقة، أشعر أحيانًا أنني في آلة زمن أتنقل فيها عندما أتمشى مثلًا من ميدان عبد المنعم رياض إلى التحرير وشارع الجامعة الأمريكية، مرورًا بشارع طلعت حرب والمباني القديمة ..
إعجابإعجاب
نعم، جميل
إعجابLiked by 1 person