اليوم رحل الشيخ «محمد محمود الطبلاوي» عن عمر 85 عامًا. عرفت الخبر عندما فتحت فيسبوك لأجد الخبر أمامي. جلست عدة دقائق أتأمل الخبر، أتأمل ملامح الشيخ في الصورة التي نشرتها الصفحة مع الخبر، أتذكر صوته.. ثم مرّ على مسمعي سريعًا صوت المقرئين المصريين الذين كبرنا بهم. بالنسبة إليّ فإن صوت المقرئين المصريين -خاصة المنشاوي، عبد الباسط عبد الصمد، محمد رفعت، الطبلاوي، والحصري- له علاقة وثيقة بجدتي رحمهم الله.
فبالرغم من أنني نشأت خارج مصر، لكن مصر وتفاصيلها كلها تقريبًا في ذاكرة طفولتي -وإلى الآن- انطوت في جدتي، وحب جدتي، ورائحة جدتي.. جميع السفريات التي كنا نزور فيها مصر كات تغمرني مشاعر الشوق للقاء جدتي. فأصبحت تفاصيل فترة التسعينيات والثمانينيات وما قبلها وما بعدها موجودة من خلال جدتي.. من خلال حكاياتها وسهراتها ووجودها.
ظل منزلنا الحالي -في قريتنا- قيد الإنشاء فترة طويلة من الزمن بسبب غيابنا عنه، وكل تطور فيه كان مرتبطًا بوجودنا في مصر. فشُيّد المنزل على عدة مراحل. وعندما يحين الوقت ونأخذ إجازة ونزور فيها مصر، وننزل في منزلنا؛ نجد راديو صغير -موضوع في غرفة مغلقة ومضيئة- يبث إذاعة القرآن الكريم المصرية في الأرجاء بصوت منخفض/ مسموع طوال الـ 24 ساعة خلال أشهر وسنوات. كانت جدتي تشرف على المنزل في غيابنا، ووضعت هذا الراديو “عشان يعمل حسّ للبيت” كما كانت تقول رحمها الله.
أثناء تواجدنا في مصر، كانت جدتي (هي جدتي لأمي بالمناسبة) تترك منزلها وعائلتها، وتقيم عندنا طوال فترة وجودنا القصيرة. تساهم في أعمال المنزل مع والدتي، وكنا نستيقظ كل يوم لنجدها أعدت لنا طعام الإفطار، وتتسامر وتحكي حكايات مختلفة مع والدتي وخالاتي وأخوالي.
في الصباحات الهادئة، كنت أستيقظ لأجدها تُنصت لإذاعة القرآن الكريم، صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الشيخ المنشاوي، الطبلاوي.. أجلس بجوارها وأسالها عن اسم الشيخ وأحاول حفظ الصوت مع الاسم، وأخبرها أكثر الأصوات التي أحبها منهم. هي الوحيدة التي لم أشعر ناحيتها بالغرابة، وأحببتها بشكل لا يمكنني التعبير عنه، ودائمًا كانت تبوح لي صراحة بأنها تحبني، وتعرّفني أنها تحبّني.
وفي السهرات وعندما يغلبها النوم، كانت تحب أن تنام على صوت إذاعة القرآن الكريم، وتطلب منّا أن ندير الراديو ونخفض الصوت بجوارها حتى تغفو. وهكذا أصبح صوت المقرئين المصريين الكبار مرتبطًا بها. كانت تحب الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وعندما توفيت كان هو الحاضر في مجلس العزاء الصغير وبجوار قبرها الذي جلسنا بجواره معها. بعد وفاتها لم أجرؤ على سماع القرآن بأصوات هؤلاء القرّاء. يخفق قلبي مضطربًا إذا سمعتهم، أخشى أن أتيقن -ربما- أنها رحلت؛ فهي تزورني باستمرار في أحلامي.
عندما قرأت خبر وفاة الشيخ الطبلاوي اليوم؛ شعرت أنني فقدتها مجددًا، وتجدد حزني عليها أكثر من الشيخ، لأن الشيخ الطبلاوي وبخلاف المقرئين السابق ذكرهم، هو أحد الأشخاص (التفاصيل) المهمة المرتبطة بها الذي كان ما زال حيًا. كما أنه توفي أصغر منها بـ 4 سنوات فقط.
إنهم يرحلون تباعًا، وترحل معهم الأشياء التي كانت تُبقيهم، ويتركوننا نحن نعيش على ما تبقى منهم.. مجرد ذكريات مرئية أو مسموعة، أو حتى حكايات متداولة عنهم. كانت جدتي تحب الاستماع إلى قراءة الشيخ الطبلاوي عندما تكون رائقة البال، أو في حالة “سلطنة” برفقة كتاب الله كما كانت تصف إحساسها بصوت الشيخ.
لم أجد ما يواسيني بعد خبر وفاة الشيخ سوى الاستماع إلى سورة يوسف بصوته، لأنني أحبها لعدة أسباب ذكرتها هنا.
رحم الله الشيخ، ورحم الله جدتي، ورحم الله جميع الأرواح التي رحلت إليه..